الخميس، 25 أغسطس 2016

كيف أصبحت يتيما (1)

كيف أصبحت يتيما (1)


الدموع ما زالت تخرج ولكن بصور مختلفة، ما زالت وسادتي يختبئ فيها الكثير من الحكايا والخبايا والقصص التي احكيها لها في دموعي وأحلامي. 

لم أقتنع يوماً بتفسير الأحلام، ولكن صدقا في وقت الضيق والكرب كان يأتي أبي في المنام ويحدثني عن انفراج الأزمة، يوما تمردت علي الدنيا، ولم أعلم اين أسير، فجاء أبي في المنام واخذني لدرس علم أظنه خارج المسجد، ثم ذهبنا لصلاة الفجر ولم يختم الصلاة حتى اختفى، رغم البعد إلا أنه يبشرني بكل فرج. 

دموع نسكبها إذا مات أحد، عند لحظات الفراق، ودموع أخرى تخرج عند الافراح، دمعتي باتت قريبة جدا، وهي سر ضعفي، وكلما بكيت تخرج مع الدموع صورة أبي الأخيرة التي كانت صبيحة حادثة وفاته، وأنا ذاهب إلى المدرسة صباحاً وأبي جالس على كرسي على الطريق ينتظر سيارة العمل، سلمت عليه ومسح على رأسي وأعطاني مصروفا إضافياً ومضيت أو مضى. 

لا أعرف من الذاهب وإلى اين، لكنا افترقنا، كل في طريق لم يحصل اللقاء بعدها إلي اليوم، لم يمسح أحد على رأسي كأب. 

أحسب أني ومنذ تسعة عشر عاماً لم يغب عني ذكر أبي مع نفسي أو أمام الناس بشكل يومي - رحمه الله- لا أعرف النوم قبل أن امرر شريط ذكريات طفولتي بصحبته بحنان قلبه وعطفه. 

يوماً أمرني أن ألقي القمامة في مجمع النفايات مع أبناء عمي، لم يكن لدينا ما يستوجب الذهاب إلى القاء القمامة، ولم يقتنع أبي بذلك، هربت منه في الشارع فوضع طرف الجلابية في فمه وبدأ يركض خلفي، درت حول مربع طويل في الحارة مرتين أو ثلاثة وأحد الجيران يجلس على باب منزله، ففي المرة الأخيرة امسكني هذا الجار وقال (بدك تحولني انت وابوك) كانت حالة من الضحك الهستيرية بيني وبين ابي

كان مهتم بدراستي فيسأل عني في المدرسة والعلامات، لم يكن يضربني على تقصيري في الإمتحانات ولكنه كان يخرج كل جام غضبه إذا ما قصرت في الصلاة. 

مرت بقية سنين عمري العجاف بعدها، لا مرشد ولا ناصح ولا صديق، في السنة الثانية التي مات فيها أبي صُفعت على وجهي في المدرسة، من أستاذ اللغة العربية، فهربت من الفصل كنت اريد الذهاب إلى المنزل فتذكرت أني سأهرب إلى والدتي وسأمني قلبها بألم كبير، فجلست خلف دورات المياه في المدرسة وبكيت وبكيت، حتى وجدت نفس الأستاذ يمسح على رأسي ويعتذر. 

كان الطلاب أخبروه بأني يتيم، كلمة الظلم الكوني التي منيت بها، هي أني يتيم، لا تحسبوها هينة، أشعر بالنقص والإهانة حين أسمع هذه الكلمة، أشعر بالضعف والعجز وقلة الحيلة عندما أتذكر هذه الكلمة، إنها ستلازمني طويلا وأمكث في العذاب دهورا أو حتى مماتي

حصلت على كثير من الأشياء المجانية، كفالات وملابس واحترامات، ولكني لم أحصل على توجيه وتوعية، فعلت ما يحلو لي طيلة سنوات يتمي وبؤسي. 

كنت أشعر بوحدة قاسية، 

وما زلت أنتظر تكرار تلك الابتسامة من أبي في كل صباح جديد، لكني منيت بنكد اليتم، والحاجة إلى الناس وهكذا #أصبحت_يتيما #ثورة_قلم #كيف_أصبحت_يتيما

السبت، 20 أغسطس 2016

كيف أصبحت يتيما (2)

كيف أصبحت يتيما (2)


تفقدوا الموجدين فلم يجدوا للعروس وكيلاً، كنت وقتها جالس بين من هم في جيلي أبناء عمي والعائلة، بدأت العيون تحتد نظراتها نحوي، كنت وقتها قد أصدرت البطاقة الشخصية، تواريت خجلاً وراء أحد الحضور، حتى نهرني أحد أعمامي فجلست أمام المأذون ووضعت يدي في يد العريس. 

لا أعلم ماهية ما يحدث عقد بيع أو تنازل أو هبة، المهم أني رددت تلك الكلمات بلا تلعثم، قلت أني وكيلها وما وكلني أحد، لكنهم أخبورني أنهم سألوها هل ترضين بشقيقك الأكبر وكيلا لكِ فأجابت نعم. 

كان هذه العقد السعيد إعلان مرحلة رشد بالنسبة لي، واعلان انتهاء مرحلة الطفولة مبكراً، أصبحت (حما) في لحظة وعم عريس يكبرني بعقد من الزمن، ووكيل شقيقتي الأكبر مني بأعوام، كل شيء انقلب رأساً علي عقب، قُلبت طاولة الحياة فوق رأسي، كل الأماكن تبدلت وكان من المفروض انها تلاعبني وزوجها.. 

لم أصدم كثيراً من المنظر، ولكنها نشوة الإعجاب التي أصابتني في مقتل، فبينما أقراني يلهثون بحثاً عن المشروب والحلويات كنت أجلس في صدر مجلس العائلة بين الرجال، وأسمع كلمات الثناء والتمجيد وصداهم يردد في أذني حتى اليوم (الي خلف ما مات). 

وضعوني في هذا الموقف ولم يرشدني أحد كيف أمارس دور الابن الكبير، نائب الأب، برعونة الأطفال أحبب أن أمارس الأبوة، فبدأ صوتي يعلوا على الجميع (أمي والأخوات)، لم أفهم لماذا يمنع الآباء أبنائهم من بعض الأشياء ولكن كان يجب أن أمنع حتى أتقن الدور أكثر، وأمارس السلطة التي منحوني إياها في مجلس العائلة يوم نصبوا طفلاً ليكون وكيلاً، فالقادر على بيع شقيقته لعريسها لتنتقل من بيت إلى آخر بجرة قلم، قادر على أن يحكم أسرة. 

كنت قد لبست عمامة مشايخ التبليغ والدعوة ليوم واحد، وعلموني في مسجدي أن الموسيقى حرام، وأن مستحلها كافر - نعم كافر- قررت عدم الذهاب إلى الحفلات التي يخالطها الموسيقى وعدم الذهاب للغداء، بدأت أخسر الناس، لم أذهب لأفراح أعز أقاربي، ما زلت في نظر أبناء عمي أني الإنسان المتعصب يوم أن حاول أحدهم أن يُسمعنا أغنية في فرح فأسمعته كلمات التفسيق والتضليل والتكفير - أود الاعتذار لهم ولم أفعل- 

لم يعجب الشيخ امتناعي فقط، بل يجب أن أمنع أهلي من سماع الموسيقى وحضور الأفراح، وانطلقت حنجرتي مرة أخرى على أمي والأخوات حرام هذا، وكفر ومزمار الشيطان، تكسير وإخفاء للملابس، وفضائح بالمجان، أرقت دماء وجه أمي أمام العائلة. 

ذهبت أمي مسرعة إلى مشايخي في المسجد، اشتكتني هناك، قلبت لها البيت جحيما عذبتها بصراخي وكلامي، كنت أحاول تقليد دور الأب في المنزل مع أنه لم يكن كذلك، فجأة تحولت الموسيقى إلى مختلف فيها وأن الحياة الاجتماعية أولى من سماع الموسيقى، أحسست بنفاق في كلام أحد المشايخ المحرمين وفجأة يحللها، ربما لأني لم أكن أدرس الفقه بعد. 

اشتكت أختي الكبرى لزوجها، ليس متعلما زوجها في جامعات ولا يحمل شهادة عليا، كنت أحدث نفسي وأنا أسير معه (من هذا الذي لا يحمل علم شرعي ويحدثني؟)  ولكني تفاجأت من حديثه أنه الذي ينم عن وعي جيد بالحياة، لم يكن هذا الفقه الاجتماعي موجود في الابتداء عند الشيخ، تحدثنا طويلاً ولم أبدي له أنني مقتنع بكلامه ولكني قرأت كتب كثيرة كان خلاصتها ما تحدث به. 

تقابلت يوماً مع صديق أبي بعد سنوات طويلة، وبعد سؤاله عن الحال والاطمئنان قال لي: تزوجت أخواتك؟  نظرت إليه باستهجان واستغراب ما يدريك وما شأنك بأخواتي، وعلى ما يبدوا أن شيب رأسه علمه أن يقرأ ما في العيون فأجابني دون أن أخبره بما يجول في رأسي وقال: أبوك كان يحسب كل يوم ويكتب ويتحدث عن البنات وزواجهن، أمانة ثقيلة خلفها أبي لمن خلفه، حملتها والدتي المسكينة التي أفنت عمرها في النجاة بهذه الأسرة اليتيمة. 

كان يومها قد تقدم ابن عمي الخلوق صاحب السن الضحوك لشقيقتي الصغرى التي عندما أنظر إليها لا أصدق انها أصبحت زوجة وبانتظار مولودها الأول، فالحمد لله على  نعمة أصهارنا ونسائبنا الخلوقين وربما هذه منحة من الله ودعاء الوالدين.. 

تكرر  مشهد وكالة العروس أمام القاضي لخمسة أخوات، فعرفت مجلسي ومكاني وكنت أردد خلف المأذون كلماتي وتراتيل دعائي، دون أب، وهكذا #أصبحت_يتيما #ثورة_قلم #كيف_أصبحت_يتيما

السبت، 13 أغسطس 2016

كيف أصبحت يتيما (3)

كيف أصبحت يتيما (3)


كان أبي معي يوم أن وزّع مصروف مضاعفا على إخوتي وأبناء عمي مقابل كلمة (آسف) التي رفضت قولها فأنبني وعاقبني حتى قلتها فاشترى لي دراجة هوائية. 

كان أبي يوم صفعت أول مرة في المدرسة - ظلماً - من أحد المعلمين الأفاضل الذي اعتاد على حمل الخيرزانة، وأتى إلى المدرسة وقال للمدرس بعد أن أشار إلي، هذا ابنك وغادر، يومها عرفت أن أبي ليس كمثله أب. 

كان معي يوم أن قال له الدكتور بأن ابنك يعاني من (فلات فوت) في قدمه، وهناك عظام تحتاج إلى بلاتين للتعديل، إما عملية وإما حذاء طبي، كنت شعرت بردة فعله العنيفة تجاه العملية وقال الخيار الأسلم وهو الحذاء الطبي، لم يكن يملك ثمنه، توجهنا إلى شارع الوحدة كان المصنع هناك وبتدخل الأخيار حصلنا على الحذاء بالتقسيط وكان غالي الثمن. 

سعادة غامرة كانت تخرج كبريق الأضواء من عيون أبي وقت أن وجد الحذاء واستطاع توفيره، حيث بقيت معه في عمله الخدماتي طيلة اليوم، وبت عنده حتى الصباح، كان يأتي المدير وزملاء عمله فيرتب ملابسي ويعرفني عليهم ويفخر قائلاً هذا ابني الكبير محمد ويقول وضحكة تعلوا محياه (أنا أبومحمد) كان فخورا كثيرا بأني ابنه، ولم أكن افهم هذا الشعور بعد. 

كان يُحضّر وقتها لفرح أختي الكبيرة، فخرجنا بعد انتهاء العمل ليفصل له بدلة، وقال لي لا تخبر أحد، كنت عطشا جداً فوجدت عند الخياط زجاجة ماء ل أرى ما فيها، فتحتها فأخذ الزجاجة بعنف من يدي وجلس واحتضني حيث الذي كا في الزجاجة بنزين، وذهب إلى المتجر واشترى العصير، وكنت أسىير بين اخواتي بتكبر كوني العارف الوحيد بسر تفصيل بدلته التي يجهزها. 

في عامي الخامس عشر، كان لا بد أن أذهب للمصورة لاستخراج البطاقة الشخصية، كنت قد اعتدت على التقاط الصور المهينة لكفالة الأيتام، ولكن هذه الصورة ليست كأي صورة، كنت أود أن يكون معي كما الكثير من الأقران. 

كثيراً من الأسئلة التي بقيت في داخلي عند البلوغ والعورة والنساء، كان أقراني يأتون بالمعلومات من آبائهم وكنت أستمع وأظهر لهم أني أعرف ذلك، كان حديثهم المستمر عن الوضوء والاحتلام والاغتسال والأمور العيب والحرام، وكلهم علموا ذلك من آبائهم حسب قولهم، كنا نجلس هناك على درج مدرستنا الثانوية،  أما أنا فمن أين لي أن أسأل عن هذه المرحلة الحرجة، كان هذا من أسباب دراستي دراسة الشريعة الإسلامية يوم تخرجي من الثانوية العامة. 

قرر أعمامي الذهاب إلى المسجد الأقصى، وكل عم منهم سيأخذ معه اثنين من أبنائه، وكانت والدتي قد رفضت من الاحتلال للذهاب إلى المسجد الأقصى، بكيت كثيراً وحزنت والدتي علي، حتى قرر احد أعمامي أن يستثني أحدا من أبنائه ويأخذني مكانه وذهبت إلى المسجد الأقصى وكنا في العطلة التي تسبق الأول الثانوي. 

بعدها بأشهر دخل شارون المسجد الأقصى واشتعلت انتفاضة الأقصى، وكنا نذهب لكي نلقي الحجارة على المستوطنات الصهيونية، كانت والدتي تلحق بي من مكان لآخر خوفا علي، كنت اقود المسيرات التي تخرج من المدارس لتذهب إلى القاء الحجارة. 
يوما كانت والدتي في السوق ورأتني أقود المسيرة، رمقتها بطرف عيني كانت فرحة بذلك ولكنها خائفة في نفس الوقت، أنبتني ولكني مضيت بشعار (لا إله إلا الله.. ع نيتساريم إن شاء الله)  وذهبت وحمي الوطيس بيننا وبين الاحتلال، سقطت راية الاحتلال واعتلينا موقع الجيش واصيب شاب في رأسه كنت ظننته استشهد ولكنه فقد عينيه حتى اليوم ها هو كفيف. 

وقتها أصبت برصاصة اصطدمت في رأسي وذهبت، شعرت بأن الدنيا تخلت عني للحظة وقعت أرضا ووجدت نفسي في الإسعاف يوقظوني حتى انتقلت إلى مستشفى القدس في تل الهوى، حضرت أمي وأعمامي وأبناء أعمامي ولم يحضر أبي يواسيني. 

لم يكن معي في أحوج لحظات عمري، أتصوره سيكون أبا رائعاً حسب ذكريات طفولتي الجميلة معه، ووصف اعمامي وأصداقاءه وجيرانه له، الجميع كان يحبه. 

بعدها بأعوام أصبت في راسي اصابة بالغة، دخلت على اثرها العناية المركزة لأيام، وفقدت ذاكرتي لشهرين، لم أشعر بالألم وقتها لأني كنت في عالم آخر، ولكني حلمت كثيراً بدخوله المنزل واحتضاني، بعد أن عادت الذاكرة ذهب إلى مصر للعلاج لم يكن أبي في جواري، لم يكن هو مرافقي، كان مرافقي زوج عمتي وعمتي وكانا خير صُحبة. 

بعد أن تزوجت، دخلت المستشفى لاجراء عملية جراحية، قالت أمي وقتها بعد إجراء العملية لو كان ابوك موجود وبكت، بعد أن ذهبت وانتهى وقت الزيارة سألني المريض الذي بجواري كان في عمر والدي تقريبا، هل والدك متوفي حديثا قلت له تقريباً له 10 سنوات، فقال أنه شعر بوفاته قريبا من كثر حديث والدتك عنه، هكذا الألم تشعر بأنه حديث الولادة في كل لحظة. 

دخلت لإجراء عملية جراحية أخري في نفس المستشفى كنت قد تعاملت مع والد زوجتي أكثر وعرفت انه طيب، فاتخذته بمكان الوالد، وما زالت هلوسات الافاقة من البنج يذكروني بها يوم أن ناديته بوالدي - وهو كذلك-، واستيقظت فلم أجد أبي .. والحاجة إليه في هذا الوقت اشد.. 

بعدها زرت المشافي لسنوات عديدة من أجل الانجاب، أريد أن يرزقني الله بولد اسميه على اسم أبي واعامله كوالدي، وهاي هي عشر سنين من زواجي مرت كالسحاب فلا أصل يؤازرني ولا فرع يواسيني. 

أخذت المشافي والعيادات مني حصتها وزيادة، وفي كل وقت كنت أنتظر نزول المطر من السماء، ربما يسقط أبي مع حبات المطر يتلقفه قلبي، ذات يوم سقطت نقطة على رأسي فاستيقظت بدون أب وهكذا #أصبحت_يتيما #ثورة_قلم #كيف_أصبحت_يتيما

الجمعة، 12 أغسطس 2016

كيف أصبحت يتيما (4)

كيف أصبحت يتيما (4)


عندما يعطي النبي اليتيم أجرا لكافل اليتيم في صحبته، وفي حديث آخر يعطي لمن مسح على شعر يتيم أجرا بكل شعره، فإن مقصد الكفالة الحقيقي يكون واضحا هنا برعاية اليتيم من كل جوانبه، فتسليم اموال الكفالات بطريقة الجمعيات أمر شعرت فيه بالإهانة، ومسح الرأس لليتيم لن يشبع البطون. 

في أول رمضان بعد وفاة والدي بأشهر قليلة تدفقت علينا المساعدات العينية والنقدية من العائلة والمعارف والأصدقاء، والجمعيات، أشبعونا خبزا ولم أتذوق طعم الحنان إلى اليوم، كنت بحاجة ماسة إلى والدي بيننا، على السحور والإفطار وعلى صلاة التراويح كنت بحاجة إلى مصروف من رجل. 

في أول عيد بلا طعم ولا لون ولا رائحة، عيد انسحبت منه كل الطبيعة، مظلم صباحه كالمساء، وبرده قارس، وقهوة العزاء وتمر بلا طعم، كل الأشياء تبدلت لم يبقى إلا الذكريات. 

وأنا كشبل أسد أحبس الدموع، وجميع أقراني يمسكون يد آبائهم يتحدثون إليهم، وأمد يدي فتضيع الهواء وتمسك نقطة ماء، وحديث في النفس كالصدا يرد بعضه بعضا، وقلب كاد يقذف عصيره، ألم ألم

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، كنا مجبرين على قبول الصدقات والتبرعات، كانت مؤذية للنفس بقدر سوط الجلاد، وتهون النفس يوما بعد اليوم، حتى يأتي يوم أطلب فيه الصدقات المتأخرة، شيء يأتي بالمجان بكسرة نفس ودمعة عين وابراز شهادة الوفاة، لحمي تربي من هذه الأموال، بالاعتماد على عفو الناس. 

عندما استلمت شهادة الثانوية العامة لم أنتظر كثيراً حتى أخذت شهادتي وشهادة وفاة والدي وذهبت إلى مكان عمله لأجد وظيفة هناك، لم يكن الأمر صعب ولكني كنت وحيدا، غادرت إلى المنزل وأنا أحمل ملابس وظيفتي الحكومية الجديدة، نفس الملابس التي كان يلبسها والدي وقت وفاته، فقد توظفت مكانه في العمل، كانت في البيت عمتي فأجهشت في البكاء وتبدلت المباركات على الوظيفة بذكريات مؤلمة ومدمية. 

بدأت أطعم نفسي وعائلتي من كد يميني، كنت أريد الإستمرار في الطفولة، صدقوني حتى هذه اللحظة أشعر أنني لم أكبر بعد، كنت أريد أن أبقى عبئا على والدي أكثر، كنت أريد كلمات تعنيف منه، كنت اشتقت اليه، حتى أن كد اليمين هذا أشعر فيه برائحة دماء والدي التي سالت، بصرخته للنجاة من الموت، لقمة عيشي ليست سهلة. 

طلبت الزواج ولم يكن الأمر سهل، فكنت الأول من الذكور، وليس هناك متسع في البيت، كنت صغيرا ولكني اردت قلبا أشكو إليه ويحنوا علي، يكفيني ما عايشته من فراغ كل هذه السنوات. 
بدأت بدفع أجار لعش الزوجية ليس هناك اب، انتقلت من دار لدار ليس هناك أب، والد يبني لابنه منزلا انظر من بعيد.. ليس هناك أب، والد يساعد ابنه في البناء..  أرقب المشهد وليس هناك أب.،لم ارد المال يوما فبيوت الأيتام مليئة بالصدقات، ولكني أردت المساندة والتوجيه والنصح، للأسف لم يكن هناك أب.

طالت سنوات الإيجار وقررت مع شقيقي بناء منزل، أكلنا الزعتر لأيام طويلة حتي يكتمل البناء بدون مساعدة أب، حتى سكنت في منزلي الخاص، وتم استهدافه في الحرب الأخيرة على غزة وما زال على المنزل ديون طائلة، ولكني استفقت على نفسي بلا أب يساندني وهكذا #أصبحت_يتيما 
#ثورة_قلم #كيف_أصبحت_يتيما

الأربعاء، 10 أغسطس 2016

كيف أصبحت يتيما (5)

كيف أصبحت يتيما (5) عد عكسي


موقف شعرت فيه بالوحدة القاسية والمرير هو ذلك الوقت القصير الذي مكثت فيه مصاباً تحت ركام منزلي لمدة النصف ساعة، فكانت معزوفة الألم والوخدة واليتم غرست مخالبها الجارحة في جسدي الضعيف. 

شعرت بوحدة كبيرة مع كثرة المحبين، إلا أن قلبي كان ينتظر قلباً غير موجود ليواسيه، كنت في أشد الحاجة إلى لمسات ذلك ابي ودقات قلبه اسمعها وأنا مضموم بين ذراعيه. 
في ذلك الموقف تذكرت ثلاثة مشاهد كل واحد سقيت فيه كأس علقم. 

المشهد الأول:
كنت أجتمع مع ووالداي وإخواني من كان حاضراً منهم على مائدة الطعام والبقية في مدارسهم، حيث وصل الخبر بأن ابي في حادث سير وهو بخير، نظرت بسرعة إلى عيون أمي بيتي الثاني حتى أخبئ نفسي فيها، ولكنها لم تكن مجهزة لأن الدموع بللتها ووقف اللقمة الأولى فلم تأكل. 
تسللت وقتها من باب الشقة الذي في منزل العائلة فوجدت يوم الحشر على درج عمارتنا، خرجت من منزلي الذي قبضت دجرانه على قلبي فأوجعته، خرجت تتلقفني أكتاف نساء مخيمنا من يد واحدة إلى أخرى لأنزل عند الرجال في مظلة البيت.. 
يااااااه ما أكثر الرجال وكلهم لا حساب لهم في قلبي بقدر رجل أدعوه أبي، على ماذا يشير هذا التجمع الهائل من الرجال، لم أعد أدري هل عقلي الصغير لا يدرك أم أن العقل في ذهول لا يريد أن يصدق.
حضرت سيارة نقل الموتى السوداء الحكومية، وكنت أظن ان ابي سينزل منها جريحا ولكن المنظر فاق كل التوقعات، لماذا لم يوقلوا لي أن ابي مات، انا ابنه الاكبر من الذكور، وأسرة كاملة تنتظر مني القيام بدوره الذي أعرف أن اخدا لا يكون مثل الوالد. 

المشهد الثاني:
في ناحية أخرى حضر المغسل وكان شيخاً أحبه من المسجد، وبعد ان خرج الجثمان من مجلس العائلة، حملني أعمامي لأودع شقيقهم، بكل قسوة صفعني القدر صفعة قوية اذهب ريعان طفولتي وزهرة شلابي واظلمت اركان الدنيا في عيني، دماء تسيل من رقبة أبي وكأنها، قطن طبي يغطي رقبته وخيوط الطبيب الغير محبوكة جيدا لفقده امل حياة، كنت اظن أن ذبحة في رقبته فقط هو سبب وفاته ولكن بعد سنوات فتشت في أوراق امي فوجدت التقرير الطبي الذي يشير إلى تهتك في الجمجمة وكسر كبير، ذرفت دموعي كثيراً وقتها، وكنت قد بلغت سن الرشد، لماذا خبأت امي علي هذا التقرير؟ ما ذنب هذا الأب الرحيم ليمنى بحادث كهذا؟ ما زال القدر مدينا لي باجابات لا بد أن أعرفها، لأني لم ازل أفسر هذا المشهد بأنه ظلم للجميع. 

المشهد الثالث: 
جاء الوقت الذي يضعف فيه أبي ولا يقوى أن يحميني، وكيف يحميني وهو لا يستطيع دفع الرمال التي بدأت تغطيه، لقد وضعوه بكل قسوة بين صندوق الأحجار وكشفوا عن وجه القمر فرايته لآخر مرة، وسرعان ما وضعوا بلاط القبور، حتى إذا ما وصلوا إلى البلاطة الأخيرة بدأت بالترنح كزهرةٍ ذَبُلت فعتت عليها الريح فاقتلعت أصولها، منذرة اياها بقدوم سنين عجاف فما لها من قرار، فشعرت ببرودة في أطرافي والنمل كأنه يعيث فساداً تحت جلد رأسي، ووقعت على القبر وايقظني أحد أخوالي. 

مشهد القصف وبقائي تحت الركام ربما ذكرني بأيام وحدتي التي قويت عليها واستطعت تجاوزها، هو نفس الشعور بالوحدة الذي مني به قلبي لسنوات طويلة.. 
وخرجت من تخيلات وحدتي لأجدني مرة أخرى في هذه الدنيا بلا أب وهكذا #أصبحت_يتيما..  😢 #ثورة_قلم #كيف_أصبحت_يتيما

الاثنين، 8 أغسطس 2016

كيف أصبحت يتيما (6)

كيف أصبحت يتيما (6) عد عكسي


- من أسوأ أيام حياتي تلك اللحظة التي أخبرني فيها موظف الجامعة الإسلامية بأنني انتهيت من الدراسة بعد سنوات طويلة وتم طباعة الشهادة وعليك استلامها بتسديد الرسوم المتبقية، لم يكن هذا الحدث الأهم في تخرجي وحصولي على درجة البكالوريوس، ولكن كنت أرنو بشغف إلى ارتداء الثوب الجامعي واستلام الشهادة في حفل التخرج كبقية الطلاب، ذلك الموقف الذي هربت منه لسنين طويلة كنت أسوف ستة ساعات متبقية لفصلين أو قل لعامين حتى لا يأتي ذلك اليوم.

- في الدقيقة التي سألني فيها موظف الجامعة الإسلامية عن المشاركة في حفل التخرج، أجابته دمعتي التي أخفيتها لعشرين عاما (لا) كانت هذه الإجابة التي كنت مجبر عليها في تعليمي الأساسي بأن أستلم شهادة فلا يفرح فيها - والدي- وكانت فرحة الجميع ناقصة، كان إحساسي أني قفزت في الهواء مرة أخرى

- لست فاشلا ولست غبيا وعندي من ملكة الحفظ والدراسة ما يؤهلني أن أستفيد من شهادتي الجامعية قبل بضعة سنوات، وأغلب من يعرفني يشهد على ذلك ويعاتبوني على تقصيري في انهاء جامعتي مسبقاً، ولكنه الخوف، نعم الخوف من عدم مشاركة والدي لفرحتي كما لم يشاركني أحزاني ولا ادري أعاتب من في هذا الألم الذي تلوع فيه القلب لسنوات طويلة، أعاتب الله أم القدر أم والدي، ولا فائدة من عتاب أحد، بقدر مواساتي لقلبي الذي يئن طويلاً دون ضجيج لشعوره باليتم المستمر.

- تأخرت في الجامعة في ذلك اليوم وكانت زوجتي تظن حتى اللحظة أني أنهي الإجراءات القانونية للتخرج، ولكني كنت جالس في ظل شجرة أبكي على أطلال عمر طويل قضيته بين مقاعد الدراسة وانتهت دون علم والدي دون سؤاله عني، دون تأنيبه وتعنيفه لي على الإهمال في الدراسة، ثم تخرجت دون احتفال، دون حضن رجل. 

- لم أشأ أن أترك الدراسة بانتظار يوم اتفاجأ فيه بوالدي يأخذني بين جناحيه، يستلم معي شهادتي الجامعية فانتهيت إلى قرار بدراسة الماجستير، فلم أقطع الأمل بمفاجأة من القدر ببعث والدي من جديد، وما زلت أعيش الدنيا على أساس أن مخرج يحب النهايات السعيدة فلربما هناك قصة محبوكة جيدا يود ان يسعدنا بنهايتها.

- أخشى مجددا أن أنهى رسالة الماجستير ولا يحضر والدي المناقشة، ويمسك بيدي ويفخر بي بين أقرانه، لكل هدف وهدفي هو حضن أب غاب طويلاً وعلى أمل أن يعود. 

- يوم كنت في الثانوية العامة وعلمت بنتيجتي كنت أنتظر وأنتظر، وفي وقت العصر ذهب إلى السوق فشاهدت رجلاً من الخلف كأنه والدي، فجلت الخطى واحداً أدافع الطريق وكأن الزمن يعود بي إلى الوراء فلربما أرسل لي القدر هدية عظيمة، في يوم فرحتي بشهادة الثانوية العامة، وعندما وصلت إلى لحظة الأكشن الاي تخيلتها في تقبيل يده وقدميه والبكاء بين جناحيه والجنون في حبه، خاب أملي في القدر من جديد.

- هذا اليوم تمام هو شعور خالجني في الشهادة الأولى التي استلمتها من المدرسة وكان بها خطأ فادح، فكنت حويصا على الحصول من العشرة الأوائل على الفصل ولكني لم أجد اسمي بينهم، ذهبت للمدير فوقفت على الباب انتطر مراجعة علاماتي وكان والد الطالب قد حضر معه، حتى تم تعديل الشهادة وحين دخلت إلى ناظر المدرسة قال لي أحضر ولي أمرك، فقلت له (ميت)، وحضر مربي الفصل ووجدوا خطأ في مادتين، ولا ادري حقيقة هل تم التعاطف لحالتي أم تمت المراجعة بدقة، ولكن تم التعديل ودهلت في العشر الأوائل. ولكني حقيقة بكيت بحرقة..

- سيبقى البكاء يلاحقني عند كل شهادة وكل مرحلة جديدة، حتى في اليوم الذي حصلت فيه على رخصة القيادة لم اجده..

ما زلت أبحث عن رائحة أبي وهكذا  #أصبحت_يتيما #ثورة_قلم #كيف_أصبحت_يتيما

رسالتي إلى سيدنا زكريا (عليه السلام)

رسالتي إلى سيدنا زكريا (عليه السلام) عزيزي: نبي الله زكريا.. أحاول فهم الدعاء الذي قلته عندما وجدت رزقاً عند من كفلتها، ...