موقف شعرت فيه بالوحدة القاسية والمرير هو ذلك الوقت القصير الذي مكثت فيه مصاباً تحت ركام منزلي لمدة النصف ساعة، فكانت معزوفة الألم والوخدة واليتم غرست مخالبها الجارحة في جسدي الضعيف.
شعرت بوحدة كبيرة مع كثرة المحبين، إلا أن قلبي كان ينتظر قلباً غير موجود ليواسيه، كنت في أشد الحاجة إلى لمسات ذلك ابي ودقات قلبه اسمعها وأنا مضموم بين ذراعيه.
في ذلك الموقف تذكرت ثلاثة مشاهد كل واحد سقيت فيه كأس علقم.
المشهد الأول:
كنت أجتمع مع ووالداي وإخواني من كان حاضراً منهم على مائدة الطعام والبقية في مدارسهم، حيث وصل الخبر بأن ابي في حادث سير وهو بخير، نظرت بسرعة إلى عيون أمي بيتي الثاني حتى أخبئ نفسي فيها، ولكنها لم تكن مجهزة لأن الدموع بللتها ووقف اللقمة الأولى فلم تأكل.
تسللت وقتها من باب الشقة الذي في منزل العائلة فوجدت يوم الحشر على درج عمارتنا، خرجت من منزلي الذي قبضت دجرانه على قلبي فأوجعته، خرجت تتلقفني أكتاف نساء مخيمنا من يد واحدة إلى أخرى لأنزل عند الرجال في مظلة البيت..
يااااااه ما أكثر الرجال وكلهم لا حساب لهم في قلبي بقدر رجل أدعوه أبي، على ماذا يشير هذا التجمع الهائل من الرجال، لم أعد أدري هل عقلي الصغير لا يدرك أم أن العقل في ذهول لا يريد أن يصدق.
حضرت سيارة نقل الموتى السوداء الحكومية، وكنت أظن ان ابي سينزل منها جريحا ولكن المنظر فاق كل التوقعات، لماذا لم يوقلوا لي أن ابي مات، انا ابنه الاكبر من الذكور، وأسرة كاملة تنتظر مني القيام بدوره الذي أعرف أن اخدا لا يكون مثل الوالد.
المشهد الثاني:
في ناحية أخرى حضر المغسل وكان شيخاً أحبه من المسجد، وبعد ان خرج الجثمان من مجلس العائلة، حملني أعمامي لأودع شقيقهم، بكل قسوة صفعني القدر صفعة قوية اذهب ريعان طفولتي وزهرة شلابي واظلمت اركان الدنيا في عيني، دماء تسيل من رقبة أبي وكأنها، قطن طبي يغطي رقبته وخيوط الطبيب الغير محبوكة جيدا لفقده امل حياة، كنت اظن أن ذبحة في رقبته فقط هو سبب وفاته ولكن بعد سنوات فتشت في أوراق امي فوجدت التقرير الطبي الذي يشير إلى تهتك في الجمجمة وكسر كبير، ذرفت دموعي كثيراً وقتها، وكنت قد بلغت سن الرشد، لماذا خبأت امي علي هذا التقرير؟ ما ذنب هذا الأب الرحيم ليمنى بحادث كهذا؟ ما زال القدر مدينا لي باجابات لا بد أن أعرفها، لأني لم ازل أفسر هذا المشهد بأنه ظلم للجميع.
المشهد الثالث:
جاء الوقت الذي يضعف فيه أبي ولا يقوى أن يحميني، وكيف يحميني وهو لا يستطيع دفع الرمال التي بدأت تغطيه، لقد وضعوه بكل قسوة بين صندوق الأحجار وكشفوا عن وجه القمر فرايته لآخر مرة، وسرعان ما وضعوا بلاط القبور، حتى إذا ما وصلوا إلى البلاطة الأخيرة بدأت بالترنح كزهرةٍ ذَبُلت فعتت عليها الريح فاقتلعت أصولها، منذرة اياها بقدوم سنين عجاف فما لها من قرار، فشعرت ببرودة في أطرافي والنمل كأنه يعيث فساداً تحت جلد رأسي، ووقعت على القبر وايقظني أحد أخوالي.
مشهد القصف وبقائي تحت الركام ربما ذكرني بأيام وحدتي التي قويت عليها واستطعت تجاوزها، هو نفس الشعور بالوحدة الذي مني به قلبي لسنوات طويلة..
وخرجت من تخيلات وحدتي لأجدني مرة أخرى في هذه الدنيا بلا أب وهكذا #أصبحت_يتيما.. 😢 #ثورة_قلم #كيف_أصبحت_يتيما
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق