تفقدوا الموجدين فلم يجدوا للعروس وكيلاً، كنت وقتها جالس بين من هم في جيلي أبناء عمي والعائلة، بدأت العيون تحتد نظراتها نحوي، كنت وقتها قد أصدرت البطاقة الشخصية، تواريت خجلاً وراء أحد الحضور، حتى نهرني أحد أعمامي فجلست أمام المأذون ووضعت يدي في يد العريس.
لا أعلم ماهية ما يحدث عقد بيع أو تنازل أو هبة، المهم أني رددت تلك الكلمات بلا تلعثم، قلت أني وكيلها وما وكلني أحد، لكنهم أخبورني أنهم سألوها هل ترضين بشقيقك الأكبر وكيلا لكِ فأجابت نعم.
كان هذه العقد السعيد إعلان مرحلة رشد بالنسبة لي، واعلان انتهاء مرحلة الطفولة مبكراً، أصبحت (حما) في لحظة وعم عريس يكبرني بعقد من الزمن، ووكيل شقيقتي الأكبر مني بأعوام، كل شيء انقلب رأساً علي عقب، قُلبت طاولة الحياة فوق رأسي، كل الأماكن تبدلت وكان من المفروض انها تلاعبني وزوجها..
لم أصدم كثيراً من المنظر، ولكنها نشوة الإعجاب التي أصابتني في مقتل، فبينما أقراني يلهثون بحثاً عن المشروب والحلويات كنت أجلس في صدر مجلس العائلة بين الرجال، وأسمع كلمات الثناء والتمجيد وصداهم يردد في أذني حتى اليوم (الي خلف ما مات).
وضعوني في هذا الموقف ولم يرشدني أحد كيف أمارس دور الابن الكبير، نائب الأب، برعونة الأطفال أحبب أن أمارس الأبوة، فبدأ صوتي يعلوا على الجميع (أمي والأخوات)، لم أفهم لماذا يمنع الآباء أبنائهم من بعض الأشياء ولكن كان يجب أن أمنع حتى أتقن الدور أكثر، وأمارس السلطة التي منحوني إياها في مجلس العائلة يوم نصبوا طفلاً ليكون وكيلاً، فالقادر على بيع شقيقته لعريسها لتنتقل من بيت إلى آخر بجرة قلم، قادر على أن يحكم أسرة.
كنت قد لبست عمامة مشايخ التبليغ والدعوة ليوم واحد، وعلموني في مسجدي أن الموسيقى حرام، وأن مستحلها كافر - نعم كافر- قررت عدم الذهاب إلى الحفلات التي يخالطها الموسيقى وعدم الذهاب للغداء، بدأت أخسر الناس، لم أذهب لأفراح أعز أقاربي، ما زلت في نظر أبناء عمي أني الإنسان المتعصب يوم أن حاول أحدهم أن يُسمعنا أغنية في فرح فأسمعته كلمات التفسيق والتضليل والتكفير - أود الاعتذار لهم ولم أفعل-
لم يعجب الشيخ امتناعي فقط، بل يجب أن أمنع أهلي من سماع الموسيقى وحضور الأفراح، وانطلقت حنجرتي مرة أخرى على أمي والأخوات حرام هذا، وكفر ومزمار الشيطان، تكسير وإخفاء للملابس، وفضائح بالمجان، أرقت دماء وجه أمي أمام العائلة.
ذهبت أمي مسرعة إلى مشايخي في المسجد، اشتكتني هناك، قلبت لها البيت جحيما عذبتها بصراخي وكلامي، كنت أحاول تقليد دور الأب في المنزل مع أنه لم يكن كذلك، فجأة تحولت الموسيقى إلى مختلف فيها وأن الحياة الاجتماعية أولى من سماع الموسيقى، أحسست بنفاق في كلام أحد المشايخ المحرمين وفجأة يحللها، ربما لأني لم أكن أدرس الفقه بعد.
اشتكت أختي الكبرى لزوجها، ليس متعلما زوجها في جامعات ولا يحمل شهادة عليا، كنت أحدث نفسي وأنا أسير معه (من هذا الذي لا يحمل علم شرعي ويحدثني؟) ولكني تفاجأت من حديثه أنه الذي ينم عن وعي جيد بالحياة، لم يكن هذا الفقه الاجتماعي موجود في الابتداء عند الشيخ، تحدثنا طويلاً ولم أبدي له أنني مقتنع بكلامه ولكني قرأت كتب كثيرة كان خلاصتها ما تحدث به.
تقابلت يوماً مع صديق أبي بعد سنوات طويلة، وبعد سؤاله عن الحال والاطمئنان قال لي: تزوجت أخواتك؟ نظرت إليه باستهجان واستغراب ما يدريك وما شأنك بأخواتي، وعلى ما يبدوا أن شيب رأسه علمه أن يقرأ ما في العيون فأجابني دون أن أخبره بما يجول في رأسي وقال: أبوك كان يحسب كل يوم ويكتب ويتحدث عن البنات وزواجهن، أمانة ثقيلة خلفها أبي لمن خلفه، حملتها والدتي المسكينة التي أفنت عمرها في النجاة بهذه الأسرة اليتيمة.
كان يومها قد تقدم ابن عمي الخلوق صاحب السن الضحوك لشقيقتي الصغرى التي عندما أنظر إليها لا أصدق انها أصبحت زوجة وبانتظار مولودها الأول، فالحمد لله على نعمة أصهارنا ونسائبنا الخلوقين وربما هذه منحة من الله ودعاء الوالدين..
تكرر مشهد وكالة العروس أمام القاضي لخمسة أخوات، فعرفت مجلسي ومكاني وكنت أردد خلف المأذون كلماتي وتراتيل دعائي، دون أب، وهكذا #أصبحت_يتيما #ثورة_قلم #كيف_أصبحت_يتيما
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق