كان أبي معي يوم أن وزّع مصروف مضاعفا على إخوتي وأبناء عمي مقابل كلمة (آسف) التي رفضت قولها فأنبني وعاقبني حتى قلتها فاشترى لي دراجة هوائية.
كان أبي يوم صفعت أول مرة في المدرسة - ظلماً - من أحد المعلمين الأفاضل الذي اعتاد على حمل الخيرزانة، وأتى إلى المدرسة وقال للمدرس بعد أن أشار إلي، هذا ابنك وغادر، يومها عرفت أن أبي ليس كمثله أب.
كان معي يوم أن قال له الدكتور بأن ابنك يعاني من (فلات فوت) في قدمه، وهناك عظام تحتاج إلى بلاتين للتعديل، إما عملية وإما حذاء طبي، كنت شعرت بردة فعله العنيفة تجاه العملية وقال الخيار الأسلم وهو الحذاء الطبي، لم يكن يملك ثمنه، توجهنا إلى شارع الوحدة كان المصنع هناك وبتدخل الأخيار حصلنا على الحذاء بالتقسيط وكان غالي الثمن.
سعادة غامرة كانت تخرج كبريق الأضواء من عيون أبي وقت أن وجد الحذاء واستطاع توفيره، حيث بقيت معه في عمله الخدماتي طيلة اليوم، وبت عنده حتى الصباح، كان يأتي المدير وزملاء عمله فيرتب ملابسي ويعرفني عليهم ويفخر قائلاً هذا ابني الكبير محمد ويقول وضحكة تعلوا محياه (أنا أبومحمد) كان فخورا كثيرا بأني ابنه، ولم أكن افهم هذا الشعور بعد.
كان يُحضّر وقتها لفرح أختي الكبيرة، فخرجنا بعد انتهاء العمل ليفصل له بدلة، وقال لي لا تخبر أحد، كنت عطشا جداً فوجدت عند الخياط زجاجة ماء ل أرى ما فيها، فتحتها فأخذ الزجاجة بعنف من يدي وجلس واحتضني حيث الذي كا في الزجاجة بنزين، وذهب إلى المتجر واشترى العصير، وكنت أسىير بين اخواتي بتكبر كوني العارف الوحيد بسر تفصيل بدلته التي يجهزها.
في عامي الخامس عشر، كان لا بد أن أذهب للمصورة لاستخراج البطاقة الشخصية، كنت قد اعتدت على التقاط الصور المهينة لكفالة الأيتام، ولكن هذه الصورة ليست كأي صورة، كنت أود أن يكون معي كما الكثير من الأقران.
كثيراً من الأسئلة التي بقيت في داخلي عند البلوغ والعورة والنساء، كان أقراني يأتون بالمعلومات من آبائهم وكنت أستمع وأظهر لهم أني أعرف ذلك، كان حديثهم المستمر عن الوضوء والاحتلام والاغتسال والأمور العيب والحرام، وكلهم علموا ذلك من آبائهم حسب قولهم، كنا نجلس هناك على درج مدرستنا الثانوية، أما أنا فمن أين لي أن أسأل عن هذه المرحلة الحرجة، كان هذا من أسباب دراستي دراسة الشريعة الإسلامية يوم تخرجي من الثانوية العامة.
قرر أعمامي الذهاب إلى المسجد الأقصى، وكل عم منهم سيأخذ معه اثنين من أبنائه، وكانت والدتي قد رفضت من الاحتلال للذهاب إلى المسجد الأقصى، بكيت كثيراً وحزنت والدتي علي، حتى قرر احد أعمامي أن يستثني أحدا من أبنائه ويأخذني مكانه وذهبت إلى المسجد الأقصى وكنا في العطلة التي تسبق الأول الثانوي.
بعدها بأشهر دخل شارون المسجد الأقصى واشتعلت انتفاضة الأقصى، وكنا نذهب لكي نلقي الحجارة على المستوطنات الصهيونية، كانت والدتي تلحق بي من مكان لآخر خوفا علي، كنت اقود المسيرات التي تخرج من المدارس لتذهب إلى القاء الحجارة.
يوما كانت والدتي في السوق ورأتني أقود المسيرة، رمقتها بطرف عيني كانت فرحة بذلك ولكنها خائفة في نفس الوقت، أنبتني ولكني مضيت بشعار (لا إله إلا الله.. ع نيتساريم إن شاء الله) وذهبت وحمي الوطيس بيننا وبين الاحتلال، سقطت راية الاحتلال واعتلينا موقع الجيش واصيب شاب في رأسه كنت ظننته استشهد ولكنه فقد عينيه حتى اليوم ها هو كفيف.
وقتها أصبت برصاصة اصطدمت في رأسي وذهبت، شعرت بأن الدنيا تخلت عني للحظة وقعت أرضا ووجدت نفسي في الإسعاف يوقظوني حتى انتقلت إلى مستشفى القدس في تل الهوى، حضرت أمي وأعمامي وأبناء أعمامي ولم يحضر أبي يواسيني.
لم يكن معي في أحوج لحظات عمري، أتصوره سيكون أبا رائعاً حسب ذكريات طفولتي الجميلة معه، ووصف اعمامي وأصداقاءه وجيرانه له، الجميع كان يحبه.
بعدها بأعوام أصبت في راسي اصابة بالغة، دخلت على اثرها العناية المركزة لأيام، وفقدت ذاكرتي لشهرين، لم أشعر بالألم وقتها لأني كنت في عالم آخر، ولكني حلمت كثيراً بدخوله المنزل واحتضاني، بعد أن عادت الذاكرة ذهب إلى مصر للعلاج لم يكن أبي في جواري، لم يكن هو مرافقي، كان مرافقي زوج عمتي وعمتي وكانا خير صُحبة.
بعد أن تزوجت، دخلت المستشفى لاجراء عملية جراحية، قالت أمي وقتها بعد إجراء العملية لو كان ابوك موجود وبكت، بعد أن ذهبت وانتهى وقت الزيارة سألني المريض الذي بجواري كان في عمر والدي تقريبا، هل والدك متوفي حديثا قلت له تقريباً له 10 سنوات، فقال أنه شعر بوفاته قريبا من كثر حديث والدتك عنه، هكذا الألم تشعر بأنه حديث الولادة في كل لحظة.
دخلت لإجراء عملية جراحية أخري في نفس المستشفى كنت قد تعاملت مع والد زوجتي أكثر وعرفت انه طيب، فاتخذته بمكان الوالد، وما زالت هلوسات الافاقة من البنج يذكروني بها يوم أن ناديته بوالدي - وهو كذلك-، واستيقظت فلم أجد أبي .. والحاجة إليه في هذا الوقت اشد..
بعدها زرت المشافي لسنوات عديدة من أجل الانجاب، أريد أن يرزقني الله بولد اسميه على اسم أبي واعامله كوالدي، وهاي هي عشر سنين من زواجي مرت كالسحاب فلا أصل يؤازرني ولا فرع يواسيني.
أخذت المشافي والعيادات مني حصتها وزيادة، وفي كل وقت كنت أنتظر نزول المطر من السماء، ربما يسقط أبي مع حبات المطر يتلقفه قلبي، ذات يوم سقطت نقطة على رأسي فاستيقظت بدون أب وهكذا #أصبحت_يتيما #ثورة_قلم #كيف_أصبحت_يتيما
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق